أيام في مونتريال .
أيام في مونتريال .
دائما أقول لنفسي ولأصحابي إنه لايوجد حكم صحيح على الشعوب والمجتمعات ، وأن كل أحكامنا هي مجرد انطباعات شخصية بسبب وجودنا في لحظات معينة وفي مواقف معينة ومع نوعيات ضيقة من الناس . ودائما أتسلح بهذه الفكرة قبل دخولي لأي مجتمع جديد أو بلد جديد فأسعى قدر الإمكان لتجنب الانطباع الأول والسعي لنقده وعرضه على مقياس إحصائي عقلي سريع ليكون لدي مساحة واسعة للاستكشاف .
جاءتني الدعوة لحضور مقابلة في جامعة مقيل في مونتريال .. فقررت السفر مباشرة ، وبعد أن قررت بدأت بالبحث عن الرفيق لعلي أجد أحد يتحمل معي وعثاء السفر ويشاركني جمال الطبيعة والمنظر ، وبقيت فترة أتقلب بين أصحابي .. وأنادي : الصحبة ، الصحبة .. فلم أظفر منهم سوى بالأماني وليت ولعل ولو .. إلخ وهي خير كثير .
قبل السفر بأيام جاءتني زوجتي بعد أن قررت أن تكون رفيق السفر ، رغم ظرفها الصحي ، وبدأنا بخوض تجربة جديدة وهي السفر لبلد غربي لأول مرة كعائلة ، زوج ملتحي وامرأة منقبة .. وكانت تجربة جميلة وفيها من المواقف الطريفة والغريبة والقاسية أحيانا .
وصلنا مطار تورنتو كمحطة وصول أولى بعد ساعات طويلة في الطائرة ، وعلى عجل انطلقنا لنقتحم صالة الحقائب لنأخذها ونقوم بشحنها إلى مونتريال .. انتهينا من هذه الخطوة فقابلنا امرأة سعودية في الأربعينيات من عمرها ومعها بنية شقية جدا جدا ، تدعو الأم عليها مرة وتدعو لها مرات .. وأنا أدعو في نفسي أن يصلح ولدي عبدالله . تشبت بنا المرأة لأنها غريبة ولا تعرف لغة القوم وكأنها تتمثل قول الشاعر :
أجارتنا إنا غريبنا هاهنا وكل غريب للغريب نسيب .
ورافقتني وزوجتي في رحلة طويلة مشيا على الأقدام من صالة الوصول إلى صالة الإقلاع للرحلات الداخلية ، نحن متجهان إلى مونتريال وهي متجهة وهذه البنية الشقية إلى فانكوفر . البنية تعبت من طول الطريق فقررت أن تعبر عن تعبها بقذف الأشياء والعبث بالأجهزة والصراخ على أمها وعلينا ، وكنت قد خرجت من الرياض بعائلة مكونة من شخصين ، لأجد العائلة تتسع فنصبح أربعة أشخاص في تورنتو .
وصلنا لموظفي التذاكر فذهبت المرأة وبنيتها نحو الموظفة وتوليت الترجمة ، لنكتشف أن المرأة بحاجة إلى عودة إلى الصالة الأولى وحمل حقائبها ثم شحنها ثم العودة لهذه الصالة .. وأنا أحكي الخبر المزعج للمرأة ، قفزت البنية على السير الذي ينقل الحقائب وكادت أن تذهب هناك مع الحقائب بدلا من أن تذهب على أحد مقاعد الطائرة .
بقي على طائرتنا دقائق معدودة ونحن مع هذه المرأة نسعى لإيجاد حل لمشكلتها المستعصية ، ووقعنا في حرج شديد هل نذهب وندعها ، أم نبقى وتدعنا الرحلة وبعد تقديم وتأخير قررنا أن ندرك الرحلة وللبيت رب يحميه . ذهبنا ووصلنا وبقيت زوجتي أياما تدعو للمرأة وترثي لها وتتأسف عليها . والأمر بسيط بإذن الله .
النقاب في مونتريال :
ما زالت زوجتي في عباءتها السعودية وحجابها السعودي الكامل بلا تبديل ولا تغيير ولم تجد مواقف مضادة لا من عامة الناس ولا من أمن المطار .. بل كان الأمر يسير وكأننا في أحد البلدان الإسلامية ، كان هذا حتى وصلنا إلى الفندق واستلمنا الغرفة . كانت الغرفة في الدور الخامس لكننا بالخطأ توقفنا في الدور الثالث ، عدنا مرة أخرى للمصعد وانتظرناه قليلا حتى فتح فدخلت زوجتي وكان أمامها إحدى العاملات .. دخلت بعد زوجتي فإذا العاملة تتصبب عرقا وترتجف من الخوف وعلى وجهها ابتسامة بلهاء ، وهي تمسك على وجهها مرة وعلى رأسها مرة ، ولم يهديء من هذا الهلع إلا ضحكي وتطميني لها .. وتركنا المصعد وهي لم تخرج من حالاتها العجيبة هذه بعد . كان هذا الموقف الطريف الأول .. وقد لقيت هذه المسكينة عددا من الدعوات بأخذ الروح وبالموت وما إلى ذلك .
خلال سبعة أيام ومع تجولنا في مونتريال وزوجتي وهي ترتدي النقاب والعباءة ، خرجت بانطباع أن المجتمعات كلها تتشارك ذات الصفات . أقول هذا لأن هناك مبالغات حول تقبل المجتمعات الغربية للآخر وعدم التدخل في شؤونه ، وتناقل صورة مثالية حول هذا . فلم نخرج للشارع إلا وجدنا إشارات بعضها ناعمة وبعضها حادة تقول أننا لا نقبل بوجود الغرباء ، الغرباء في الشكل والصورة والهوية . تأتي هذه الإشارات أحيانا على شكل نظرة ساخرة وأحيانا على شكل صراخ من سيارة عابرة وأحيانا في صورة هجوم حاد . ولا أنسى كثرة المواقف الإيجابية والترحيب واللطف والتعاون الذي نلقاه من مكان إلى مكان .. وأذكر أننا تهنا مرة في الطريق إلى حديقة كبيرة “ Botancial garden “ فتوجهت بالسؤال إلى رجل في الأربعين تقريبا من عمره ومعه فيما يبدو أبوه وأمه وزوجته .. فأخبرني أنه متوجه إلى هناك وأن علي فقط متابعته ، وتحدثت العائلة كلها معنا وأظهرت الترحيب والود وأقترحت علينا زيارة الحديقة في الصيف .. والأمثلة الجيدة كثيرة . في ذلك قابلني رجل كبير في السن ويبدو أنه متأثر بالخطاب السياسي في كندا هذه الأيام والجدال المحتدم حول داعش .. فهو ما إن رآني ملتحيا وزوجتي مرتدية الحجاب الكامل حتى بادرني بالسؤال : من أين أنت ؟ .. فأخبرته أنني من السعودية . فقال لي : هل ما يحدث في العراق وسوريا جيد ؟ هل هو شيء جيد ؟.. ثم مرر يده على رقبته يحكي الذبح لأن لغته الإنجليزية لم تأذن له بالإفصاح أكثر .. فالغالب في مونتريال يتحدثون الفرنسية . طمأنته بكل أمانة وعمق وصدق أنه أمر غير جيد .. وقد بدا لي أن السؤال محور عن تساؤل أكبر في ذهنه وأخطر : هل انا من داعش أم لا ؟
هكذا بدالي ولذلك ضحكت كثيرا بعد أن فارقته لأنني كنت أرى الخوف والشك في عينيه.
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا