بين الطب والفلسفة/المنطق
بقيت فترة طويلة مأسورا بالعلاقة بين الطب والأدب، وبارتباط الطب بالشعر خصوصا. وكنت أتلقط الكتب التي تتحدث عن هذا وأبحث عن أعمال الأطباء من شعر أو نثر. وأذكر أنني كتبت قائمة طويلة بأعمال الأطباء، دونتها في أوقات متفرقة ثم فقدت هذه القائمة مع ما يفقد الإنسان في طريق حياته من أشياء وأفكار واهتمامات.
لكنني كلما ازددت ممارسة للطب كلما كبرت في عيني العلاقة بين الطب من جهة والفلسفة والمنطق من جهة ثانية. وتتضاءل الأفكار والتصورات في ذهني التي تربط بين الطب والأدب. فالطب جاف وقاسي وصارم ومليء بالمناطق الرمادية التي تتمايز فيها العقول والقدرات كالمنطق والفلسفة. والأدب منطلق ومرن ومتماوج ولايحتاج كثير معرفة ولا فهم بل ربما كان التفكير المنطقي شرا على الشاعر والأديب، فهو يكف انطلاقه وانسياب خياله. وفي الطب كلما زاد علمك كلما قل إنكارك لكثير مما كنت تنكر، وكلما ازداد اهتمامك بالصورة الشاملة الكبيرة مع الاهتمام ببعض التفاصيل باختلاف التخصص، كذلك الفلسفة والمنطق. والأدب كله تفاصيل دقيقة وكلما أمعنت في التفاصيل وجعلت من التفاصيل صورا كبيرة كلما اكتسب الأديب ميزته واختلافه.
ولايكاد المتكيء على التاريخ يسلم من السقوط في التحيز لأن التاريخ يعطيك أدلة لكل ما تريد لكنني سأتصنع السلامة منه وأقول: إنني أصبحت “أظن” أو “أرى” في أثناء المحاولة لتمرير شريط التاريخ سريعا، أن البشرية عرفت الطب والمنطق كقرينين لا ينفكان. وانظر تاريخ الطب وأهله فلا تكاد ترى إلا فلاسفة. بل إنك تقرأ في كتب الطب إلى فترة قريبة -قريبة نسبيا في عمر التاريخ- وكأنك تقرأ منطقا وفلسفة. بل هذا من أبرز المثالب التي تُحمل على الطب السابق للطب الغربي أنه طب مكتبات لا طب مستشفيات وأنه طب مغرق في التنظير حتى ظهرت مدرسة باريس وحولت الطب من طب مكتبات إلى طب أكثر واقعية “library medicine to hospital medicine “.
وهذا الأمر كذلك واضح غاية الوضوح لمن لديه قليل إطلاع على تاريخ أطباء الحضارة الإسلامية فلا تكاد تجد طبيبا إلا وهو منطقي أو فيلسوف أو فقيه أو شيء من كل هذا. وتسمية ابن سينا لكتابه “ القانون” بهذا الاسم لوحدها دلالة واضحة على الارتباط العميق. وتأمل مثلا اسم كامل الصناعة لابن عباس المجوسي، فردوس الحكمة للطبري ، الكليات لابن رشد فتشعر وكأنك مقدم على قراءة كتبا في الفلسفة لا في الطب.
ولا يمكن أن يكون هناك طبيب جيد دون أن يكون لديه قدرة على الحس النقدي والتحليل المنطقي سواء موهبة أو اكتسابا. وربما يتفق معي بعض الأصدقاء من الأطباء أن من أجمل الأشياء أن تعمل مع طبيب خبير لديه قدرة نقدية عالية وحس فلسفي عميق فتشعر أنك في تمرين منطقي وفلسفي لا يشكل الطب المجرد فيه إلا القدر البسيط. ولهذا لاتستغرب لو وجدت طبيبا ذكيا قد يثبت لك الشيء وعسكه بقوة البرهان والدليل القاطع خصوصا في المناطق الرمادية التي تعجز التوصيات ( guidelines ) عن الوصول إليها أو الإحاطة بها.
وما تقدم يقودني إلا تأييد رؤية من يرى ضرورة تدريس المنطق وبعض الفلسفة لطلبة الطب، فيفهموا كيف يمكن أن يسير الإنسان بين الأشياء والأفكار وكيف يمايز بين ما يريد وبين ما هو الواقع. وكيف يتسلح بالفهم الذي يجعله أقل عرضة للمغالطات والتحيزات التي لا يسلم منها أحد.
: مصادر
Nineteenth-Century Medicine: The Paris School of Medicine. Yale open courses on history of medicine.
Teaching Clinical Reasoning to Medical Students: A Case-Based Illness Script Worksheet Approach Michael Levin, MD, David Cennimo, MD, Sophia Chen, DO, Sangeeta Lamba, MD
العلاقة بين الفلسفة والطب عند المسلمين- مجلة الجمعية الفلسفية المصرية ١٩٩٦ نقلا عن موقع حكمة.
Philosophy for medical students—why, what, and how, P Louhiala
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا