المريض الذي قال لي "لا"!
دعني أقول لك: أنا متيم بهويتي. تحيط بي هالة من النرجسية والغرور حين يأتي الحديث عن الهويات والحضارة والأخلاق. ولهذا أشعر أحيانا أنني لا أرى كثيرا من الجوانب الإيجابية حولي إلا بعد تأمل ومحاولة للتخلي عن التحيزات. وفي نفس الوقت لدي حساسية مفرطة من الانبهار بالآخر ويتكرر على ذهني نص في غاية البيان وجدته في الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي: “ قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتهم أشجع؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق؛ وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم …” واستأذن أبي حيان هنا قبل أن يذهب في سجعه أكثر لأنه أحيانا لايتوقف. وعودة على محاولة “عدم الانحياز” لم يبهرني شيء مثل حسن أخلاق من يقود السيارات في الشوارع في غالب المدن الأمريكية التي زرت. فهم يتعاونون ويتسامحون ويتفاضلون بخلاف ماكان يحصل في شارع الضباب في الرياض حين كنت أخرج من مدينة الملك فهد الطبية فلا تكاد تجد من يفسح لك فسحة في المسار حتى تسير مع الناس قاصدا سبيلك. وهنا لا أكاد أشير بإشارة السيارة ذات اليمين أو ذات الشمال حتى يقف أقرب الناس إليك بكل سماحة بلا منة ولا عنف. وهذا الطبع الطيب موجود في كل مدينة ذهبت إليها في أمريكا إلا نيويورك. تشعر في شوارع نيويورك أنك في جدة أو الرياض أو القاهرة. وأذكر أنني عدت إلى جدة بعد أشهر طويلة قضيتها في أمريكا فخرجت من فندقي إلى مكتبة كنوز المعرفة - وهي مكتبة جميلة ومما يقصده القاصدون في جدة- فقد رأيت المسافة قريبة، لا تتجاوز نصف ساعة مشيا. وكان جو جدة ربيعا لطيفا، ومشيت ما شاء الله أن أمشي وبعد ستر الله وحفظه تراجعت بعد أن كادت تلفحني حافلة مرت بسرعة من أمام وجهي. فنظرت إليه باستغراب وكنت أظنه سيعتذر لأنه لم يتوقف حتى أقطع الطريق.. فأخرج رأسه من حافلته وصرخ بأعلى صوته: “مجنون أنت؟! “. فما وجدت جوابا إلا الضحك والله على حالي وحاله وكدت أن أقول له نعم أنا مجنون. وبعد عشر دقائق من المشي عدت لفندقي واستقليت سيارتي.
وحتى لا أذهب بعيدا في هذا أعود فأحكي موقفا عابرا أشجاني كثيرا. جاءني اتصال من قسم زراعة الكبد يطلب استشارة لمريض يعاني من انخفاض شديد في حموضة الدم. قلبت ملفه سريعا على عجل، وافرغت الباقي من كوب القهوة في جوفي ثم مشيت متكاسلا في أزقة المستشفى بغفلة تامة على أمل أن تنتهي زيارتي لهذا المريض سريعا وأعود لمكتبي أكتب ما يُمكن أن يكتب. وصلت لباب الغرفة ٤٠٢٦. طرقت الباب وحيّيت المريض وقدمت نفسي إليه وشرحت له سبب زيارتي له. كان المريض أمريكيا أبيضا ستينيا بملامح هادئة ومريحة جدا، ولحية بيضاء خفيفة، فاسترسلت معه في الحديث وجلست على الكرسي المقابل لسريره. سألته إن كان قد أصيب بأي مشاكل في الكلى من قبل.. فأجابني بـ”لا” عربية جميلة واضحة وقد كان حديثنا كله بالإنجليزية. ظننت أنني لم أسمع جيدا فأكملت الحوار وسألته سؤالا آخرا فأجانبي بذات “ اللا “ الجميلة. هنا توقفت وسألته : هل قلت “ لا” ؟ قال: نعم، باسما. ثم أخبرني أنه عاش مع العرب سنوات طويلة جُلّها في الجزيرة العربية. حين أخبرته أنني من السعودية فاضت عيناه بالدموع وأستغرق يصف لي بملامح تفيض بالعاطفة والود عن الطيبة واللطف الذي عرفه من الناس في الرياض وجدة وأبو ظبي. قال لي: أنتم ناس طيبون جدا جدا، أتمنى أن يعرفكم العالم كما ينبغي. حكى لي عن مجالس القهوة والشاي وجلسات البر مع الأصدقاء. واسترسلنا في الحديث فقال أنه عاش في دبي وأبو ظبي والرياض وأماكن أخرى لكن لم ير الإسلام في دبي لاستغراقها في محاولة ارضاء العالم ففقدت هويتها. قلت له : هل تعلم أننا لا ندرك هذا وأن لدينا نسبة كبيرة من الناس ترى دبي النسخة المطورة التي ينبغي أن نصل إليها؟ قلت له إنني أرى ذوبان الهويات والقيم في كل مكان حتى في أمريكا. فقال لي: دائما أقول لأصدقائي المسيحيين المتدينين إن المسيحية الحقيقة هي في الشرق هناك ويوشك أن يأتي يوم لايجد المسيحي مكانا له في أمريكا بسبب طغيان المادي واللاديني. وقد صدق!.
زرت دبي أول مرة عام ١٤٣٢ هـ، سمعت عنها كثيرا. حدثني عنها المنبهرون كثيرا. سمعت عن برج خليفة الذي لن تراه بشكل مريح إلا وأنت مستلق على ظهرك، عن مطار دبي الرائع. عن أشياء كثيرة ، عن المترو الجميل والسريع والمنظم. رأيت هذا كله. غير أن كل هذا حين رأيته لم يحرك فيّ كثيرا، العالم متشبع بهذا وأكثر . كلنا، البشرية كلها لم تعد بحاجة لمزيد من عمران ومدينة ، لقد وصلت مداها. انسان اليوم وسكينته وهدوئه مهددون بهذا الضجيج وهذا اللهاث خلف العمران والمدنية المادية المجردة. نحن نقيس التطور بجرينا خلف العالم الأول جريا أعمى مجردا من روحنا وهويتنا أعني روح الإسلام وهويته ، وحياء العربي وأخلاقه الأولى. منذ أن وطئت قدمي المطار مرورا بالمول فالمطعم الأمريكي المطل على البحيرة الهادئة ، واللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة هنا. اسمها دبي العربية " ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان " كما يقول ابن الحسين.
الذي أبكى هذا الغربي بين يدي ليس عمارات دبي ولا فنادقها. بل الود العميق والدفء في العلاقات الإنسانية الذي يملأ حياتنا ولاتكاد تجده إلا قليلا في المجتمعات الغربية المتحجرة. صافحته بحرارة وتفرقنا ثم زرته اليوم الثاني وتحدثنا بود وانسجام. شعرت أن بيني وبينه نسب. اسأل الله عز وجل أن يشفيه ويرفع عنه فقد كان إنسانا لطيفا، وقد خلق في قلبي شعورا لذيذا لا أنساه. والجميل بالجميل يذكر، كنت أسير متثاقلا مرهقا في نهاية يوم عمل طويل، أوقع أوراقا لمريض في الدور الخامس من المستشفى. وقعت عيني في الطريق على وجه شرقي كأنه ابن قريتي، فابتسمت له وألقيت عليه السلام وانصرفت لما أنا فيه. وإذا بي أسمع من يقول : “ يالحبيب!”، قلت: أهلا وسهلا!.
- الأخ من وين؟
- من السعودية.
- ونعم فيكم والله. تعال تفضل معنا.
- الله يكرمك مشغول والله وتشرفت برؤيتك.
- وش دعوة؟ معك فلان الكويت والله تجي نقهويك.
أخذني الكويتي الكريم لغرفته وفيها من كل النعم فسقاني قهوة عربية ولجت إلى عروق مخي وقلبي. لك الله أيها الكويتي الجميل. أغرقني بكرمه وفضله ورواني من قهوته وأطعمني من تمره اللذيذ من حيث لا أحتسب. وما زال يواصلني وأواصله منذ ذلك اليوم. هذا الموقف الإنساني العابر، هو ما يفقده الغربي ولا يمكن أن يدركه.
واشنطن ١٤٤١ هـ
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا