رحلتي إلى آلاسكا - ٣
نزلتْ علي مشاعر قاسية هذا الصباح بسبب خطأ ارتكتبه في حق أحدهم قبل أشهر طويلة. ومن بين الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حياته ويندم عليها، لا أجد موقفا يلح علي مثل هذا الموقف. مر المشهد أمام عيني كشريط ذكريات بطيء جدا وأنا في الطريق خاليا من الناس إلى منطقة دينالي وجبالها المهابة. لو عقل الإنسان لشكر الله على نعمة النسيان كما يشكره على نعمة التذكر. والإنسان كله خطأ يتحرك، خطأ في حق نفسه، وحق ربه، وحقوق الناس من حوله. موقف آخر لايمكن أن أنساه حدث وأنا في منتصف الابتدائية: جاءت أمي مشتاقة لي بعد سفر لتهديني ثيابا جديدة ، فرفضت أن أرتديها بحجة أنها لم تعجبني، فدمعت عين أمي. يمر علي أحيانا هذا الموقف مرورا سريعا وقد جاوزت الثلاثين أحيانا فتدمع عيني.
قرأت يوما سطورا لرسول حمزاتوف : "كان والدي يقول أيضا الإنسان الذي قام بعمل معيب ويأخذ بالندم عليه بعد سنوات يشبه إنسانا يريد أن يسدد دينه بأوراق نقدية قديمة تعود إلى ما قبل الإصلاح النقدي ”. هذه الذكرى وهذه الجبال حولي تذكرني بـ“بلدي“ لرسول حمزاتوف. رواية غاية في الجمال وزادتني انتماء وحبا للجبال. أتأمل دينالي أمام عيني فأرى فيه ريمان الشامخ وأرى بطحة وتهوي وبركوك. تلك الجبال الشامخة الكريمة التي خالطت أرواحنا وأحبتنا وأحببناها.
من الأشياء التي لفتت انتباهي في هذه المدينة هي كثرة ” المقاهي“ على جانب الطريق. فتجد غرفة صغيرة تقدم القهوة على النمط المعروف على الخطوط السريعة في السعودية بل وفي داخل المدن. ويبدو أن أهل المدينة أصحاب ”كيف“ لأن المقاهي في كل مكان ومحلات الحشيش في أماكن متفرقة من المدينة! والحشيش مسموح في ولاية آلاسكا كما يبدو.
محلات القهوة منتشرة بهذه الطريقة في المدينة وما حولها |
نعود إلى دينالي: الطريق إلى هناك من وسط المدينة ٤ ساعات تقريبا ولكنه طريق جميل وتحيط به الأنهار والغابات من كل جانب، توقفت على الطريق أمام بحيرة اسمها ”بحيرة المرآة“. هذا المزيج من الجبال والأشجار والماء يتكرر في أمريكا في أماكن كثيرة لكن مبهر في كل مرة تتأمله وتقترب منه. رغم إنني أقول لنفسي للأحباب أن بيني وبين جمال الطبيعة في أمريكا حاجز من الزجاج وقليلا ما أشعر بذات الشعور الذي أشعره وأنا جالس في ظل صخرة في بطحة أو ريمان - من جبال بني شهر-.
بحيرة المرآة أو mirror lake
ودينالي مرة أخرى هي أعلى قمم جبيلة في أمريكا الشمالية وهي بمظهرها البهي أيقونة لهذه المنقطة من العالم. وهي تبعد عن أنكوريج مدة ما يقارب أربع ساعات بالسيارة وبعدها تحتاج أن تمشي لمدة طويلة للاقتراب من الجبل.
أفسد جمال الطريق إلى منظر الجبال المتثلجة أعمال الطرق التي عطلت السير لساعة على الأقل. لكنك كلما اقتربت ظهر الطود الشامخ مهابا عزيزا. وللجبال في نفسي مكانة عظيمة فهي عنوان للمنعة والعزة والثبات والاكتفاء والعزلة والوقار. وتأمل في تاريخنا ولقصتنا مع جبل النور وأحد ويا سارية الجبل، فجبل طارق، وانظر إلى الجبال في الأدب وفي أشعار المحبين والهاربين والصعاليك.
المنظر جميل جدا ولكن أكرر ما قلته أعلاه أن كثيرا من المناظر الطبيعية هنا لا تتدخل إلى أعماق نفسك، فجمال الطبيعة هو في الامتزاج بها والاتحاد والحلول فيها :). وإلا صرت متفرجا على فيلم في صالة منزلكم الكريم. ورغم هذا كان منظر ”دينالي“ بهيا جدا حتى خطر في بالي بيت من الشعر كبداية لقصيدة وأنا أتأمله ” يذكرني دينالُ ريمان َ حينما … ” لكنني تعوذت بالله من شر كل شر. فالقصيدة مثل الأحجية والإنسان ليس بحاجة إلى مزيد من الأحجيات في الحياة.
في طريق عودتي اكتشفت أنني لم آكل وجبة حقيقية لمدة يومين. وللحديث بقية بإذن الله :)
٣ محرم ١٤٤٢ هـ
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا