أيام في اليابان
هذا يومي الأول في اليابان لحضور المؤتمر السنوي للجمعية العالمية لضغط الدم. معي ملصق أو ورقة سأعلقها على الجدار ليراها الناس. وهي ورقة - بعيدا عن تزكية النفس - تحمل فكرة ذكية لم تُنشر من قبل. ورأيي في هذه المؤتمرات والملصقات - بعيدا عن احتقار النفس - سأكتبه كاملا بعد التقاعد إذا أمهل الله لنا في السنين ومد لنا في العمر.
خرجت هذا الصباح بعد فطور أمريكي معتاد في باحة الفندق الى الشاعر المجاور فضولا واستكشافا. والهواء لطيف أشبه ما يكون بهواء أبها غرة الشتاء مع رطوبة رقيقة قريبة من رطوبة واشنطن بداية الخريف. المكان كله مزيج من أمريكا التي أعرف في الشوارع والتنظيم مع تراث شرقي عميق عميق. والناس حين ينتظرون غارقين في صمت وفراغ هاديء. أيدي أحدهم متشابكة خلاف ما اعتدت عليه، وقوفا على قارعة الطريق يتأملون مواضع السجود دون انشغال بشيء. احداهن اقبلت تعاكسني السير مقبلة بأيدي متلاحمة كأنما خُلقت كذلك، تنظر لموضع قدميها في سكون. ولولا أنها تمشي لظننت أنها تمثال واقف. نحن والأمريكون نفعل أشياء كثيرة ونحن نمشي. نأكل ونتحدث ونعبث بشاشة الآيفون ونستمع بودكاست لحوار بين بيرس مورقان وجوردن بيتيرسون، ونصدم بالمارين ونعتذر ونكمل المسير. انطباعي الأول أن هؤلاء لا يفعلون إلا أشياء محدودة في اللحظة الحاضرة. وقد يكون انطباعا متسرعا بلا أساس كما هو الحال مع معظم ما نقول وما نكتب.
الناس كلهم مقَنّعون. وما زالوا شديدي التحفظ في كل شيء يتعلق بالفيروس. حتى اجراءات المطار رغم التسامح الأخير الذي يتحدث عنه الإعلام الياباني ما زالت شديد ومتحفظة. ومررتُ بإجراءات طويلة ومحطات متتابعة قبل ختم الجواز والسماح بالدخول. ومن الظريف أنني بعد وصولي للمطار ولملمة الأمتعة وقفت في مكاني ما يقرب من ثلث الساعة أحاول الاتصال بشركة الاتصالات السعودية لتفعيل خدمة الانترنت. ويبدو أن الكاميرات رأت هذا الشخص القابع في مكانه بلحية سوداء - وبعض شيبات- ووجه بني وعيون واسعة فبعثت شرطيا يترقب. فجاءني عارضا بطاقته ومعلوماته وسألني من أين فقلت من السعودية وأخرجت جوازي فرأى صاحبي كلمة ” الرياض ” في التأشيرة التي صدرت من السفارة اليابانية في الرياض، فأظهر المعرفة وقال: أها .. هندي؟ . فقلت لا يا أخي وضحكنا. وضحك هو أكثر مما ضحكتُ ثم مشى معي ٥ دقائق حتى أوصلني لمحطة القطار.
كل أكواب القهوة التي شربتها هذا الصباح مركزة تركيزا أكثر مما اعتدت عليه. والناس في اليابان لا يشربون اللاتيه ولا أدري إن كان يعرفونها. طلبت إحداهن لاتيه فأتت لي بقهوة ممزوجة بالحليب فما قبلتها - القهوة - لكنني شربتها على مضض. وقلت لعله حاجز اللغة. وفي الليل مررت بمكان آخر وقبل أن أجلس قلت له: لا تيه. لا تيه. لاتيه. ثم فتحت جوالي وعرضت له الصورة. فقال: نعم. ثم أتاني بقهوة سوداء ممزوجة بحليب. فلم أقبل هذه المرة واستأذنته بالانصراف فخجل واعتذر واستسمح. سامحه الله وهداه للإسلام.
حضر ولي العهد الياباني هذا الصباح حفل افتتاح المؤتمر الذي ذكرته سابقا. جاء هو وزوجته في لباس بسيط سهل وجلسا أمامنا على المسرح على كراسي بسيطة سهلة مثل الكراسي التي نجلس عليها. وعلمتني الأيام ألا أغتر بهذه الحركات لأن مظاهر الزهد هذه أحيانا لا تكون إلا زهدا ظاهر وخلفها الترف والعبث. وانظر للغربيين وما يصنعون من بساطة وتبسط لكنهم في غاية الترف والسرف. ويبدو مما سمعت أن اليابان تظهر بصورة لم تعتدها من قبل فالحراسات الأمنية في كل مكان والعسكر يحيطون بالمداخل والمخارج. والتصوير ممنوع وأوصوا بالصمت في حضور معالي وكيل الامبراطور. ويبدو أن كل هذا لم يحصل إلا بعد الاغتيال الذي وقع لرئيس الوزراء السابق. تحدث نائب الامبراطور في كلمة بانجليزية بسيطة عن المؤتمر وسعادته بحضوره لكنني استغربت حديثه العلمي البحت والتفصيلي ولا أدري إن كان يريد أن يقول وأنا كذلك أفهم ما تقولون. انهى كلمته وانحنى أما زوجته الأميرة كما انحنى كل المتحدثين قبله. غير أنه لم ينحن لنا كما فعل المتحدثون. والحراسات بهذا الشكل يعتبرها اليابانيون شديدة لكنها في الحقيقة أقرب ما تكون مسرحية مقارنة بـالحراسات الأمنية في دول العالم. فالدخول والخروج مرن وسهل. والمشي في الشارع نفسه ممكن. ويقول من عرف اليابان أن حادثة القتل لرئيس الوزراء السابقة كانت فاجعة لليابانيين لأنها سابقة لم تُعهد - على الأقل في العقود الأخيرة-. والتحقيق في حادثة القتل هذه فتح أبوابا من الجحيم على احدى التجمعات الكنسية في اليابان. لأن مبررات القاتل أن الرئيس عبث بمشاعر أمه فتبرعت بكل ما لديها فعاشوا في فقر. وهذا التبرير جر لتحقيق وفتح ملفات عن علاقة القتيل بالكنيسة. فوجود ما لم يظنوا أن يجدوا. والكنائس بشكل عام تحاول الحضور بقوة في اليابان. فكيوتو وحدها بها عدد هائل من الكنائس. والعون والسداد من الله وحده.
قابلت أخا من مصر يعيش هنا في اليابان منذ سنوات طويلة. وقد عاش قبلها طفلا في الطائف سبع سنوات. فهو كعادة من عاش في السعودية ثم غادر، يحدثني مولعا بها محبا. يحكي تعمق الخرافة في الناس وتجذرها. يحكي عن صديق له بلا دين. وكان له أب لا يحبه ثم مات الأب. فجاءه كاهن يقول له: يا فلان. أبوك في أدنى دركة من دركات العذاب. وروحه انقلبت أسوأ منقلب. وهذا يحتاج إلى دعوات وصلوات ونفثات. والصلوات والنفثات والدعوات لا تأتي إلا بدولارات. فتركه الولد وأعرض عنه وهو يقول في نفسه: يا لهذا الأب كرهته حيا وميتا. لكن الكاهن لم يعرض عنه وما زال يتتبعه بالتخويف والترهيب حتى أدخل في روعه أن مصائب الدنيا ستتوالى عليك بشؤم روح أبيك اللعينة. وبقي الرجل في حيص بيص حتى روى قصته لصديقه المصري وأخريين من المسلمين. فقالوا له: الحل عندنا. وتواعدوا مساء يوم جمعة وقرأوا على الفتى وبيته سورة الكهف. فنزلت السكينة على قلبه وزالت لعنة الأب عن وجهه.
لا تلتفت يسارا وأنت تقطع الشارع في اليابان لأن السيارات تأتي من الجهة المعاكسة. وقفت على عتبة الشارع وأدرت رقبتي لليسار فلم أر سيارة قادمة فهممت بقطع الشارع حتى سمعت صوت سيارة قادمة من الناحية المعاكسة. وما أعنيه أن نظام السيارات هو أن السائق يكون في الجهة اليمنى من اليسارة كما هو الحال في بريطاينا. وواصلت مشيي حتى وصلت المسجد لصلاة الجمعة. والمدينة قليلة المساجد وسكانها من المسمين قليل في كل حال. وركعت ركعتين فبدأ خلاف بين مصريين اثنين حول حكم إمامة غير العربي للمسلمين. وطال الحديث وارتفعت الأصوات ولولاء الحياء والغربة لصرخت بالأحمق منهما وهو واحد يتحدث وكأنه يعرف ما لا يعرف الآخرون غفر الله لنا وله. صليت فانصرفت فقابلت عند الباب مسلما يابنيّا درس في الجامعة الإسلامية قبل ٣٧ سنة وكان يتكلم بعربية جيدة. وخرجت أمشي لا ألوي على شيء فأقبل علي مسلم من كينيا متزوج من مسلمة من موزمبيق فسألته عن المدينة وعن أشياء كثيرة. أجاب إجابات كلها كيئبة متشائمة. فهو لا يرى شيئا جميلا في هذه المدينة وفي هؤلاء الناس. غير أن الساعات قفزت فجأة وانتهت ساعات المؤتمر فلقيت رجلا آخر فحدثني حديث الملهم العاشق لليابان. يقول صاحبي مثلا أن اليابان ليس فيها عمال نظافة بمعنى أن تجد في الشارع من يكنسه من الأوساخ أو يجمع الورق وبقايا الناس. هذا شيء لا يحدث. وجمل حديث صديقي هذا وزان فقضيت الساعات أنصت له وأسمع. وفي السطور هذه كثير من حكاياه.
دعني أقول لك: لم تكن زيارتي لليابان مرتبة أو مخطط لها جيدا كـ ٨٨٪ من الأشياء في حياتي. لكنني بعد أيام قليلة شعرت أننا يجب أن ندعو أمريكا العالم الثاني. فاليابان واليابانييون فيما يبدو لي عالم مختلف تماما عما اعتدت عليه وعرفت. يقولون لي أن الياباني لا يكذب ولا يخادع. وهذه اللطافة التي تراها في الناس والهدوء والخضوع خلفها ”عزيمة مرء أشبهت صلة النصلِ“. ومن غاية مراعاة الناس مثلا أن الياباني قد لا يركب الحافلة إن كان في يده طعام له رائحة قد تضايق الناس. والياباني مثلا قد يخفض إضاءة المنزل حتى لا يزعج الناس أعين الناس في الشارع. والأطفال يذهبون لوحدهم مشيا للمدارس. يجتمعون في نقطة واحدة يلتقون فيها ثم ينطلقون سوية يقطعون الشوارع. ويقف متطوعون من كبار السن على تقاطعات الشوارع الكبيرة للتأكد من سلامة الأطفال وانتقالهم بسلام. والعنصرية لا تكاد تذكر. ويحكي أحدهم أن غربيا سائحا تلفظ على إندونيسية مسلمة حين رآها بالحجاب فاشتكته للسلطات فلم يفهم الشرطي دوافع الرجل فيشتم امرأة عابرة. والسمنة لا تكاد تراها في هذه اليابان والناس أصح وأشد من أقارنهم في العالم. وفي كيوتو تحديدا أكثر من ٤٠٠٠ آلاف شخص تجاوزت أعمارهم القرن وهم بعافية.. هذه حكايا سمعتها وأقولها لك. وأنا أصدقها. لكن لا أضمن ما يتسلل إلى ذهنك من تصورات. يقول أحدهم أن من بلغ السبعين بلغ الذروة في حركته ونشاطه وعطائه ونتاجه. وأصدقه في هذا أشد التصديق. فالباحثون اليابانيون الذي أراهم والمحاضرون قد بلغ بهم الكبر عتيا لكن أحدهم ما زال أستاذا في الجامعة يعطي ويقدم وينشر ويبحث. ومن الطريف أن تمشي في أحد الأماكن العامة فتجد دليلا سياحيا قد انحنى ظهره يمشي بنشاط وشدة وخلفه وحوله شباب وفتيات وكهول يتبعونه وهو يعلو بهم ويهبط. وحتى لا نظلم أنفسنا وغيرنا من الناس فجزء كبير من غياب السمنة هو بسبب اختلاف الجينات. فهم أقل عرضة للسمنة حتى لو أكلوا ما أكلوا. وهذا ما أكده أحد الشيوخ الباحثين في محاضرة له كانت عن الطب الجيني فأبحر في النوع الإنساني والسلاسل الجينية والفرق بين اليابانيين وغيرهم من الشعوب والأمم. وهذا لا يبرر الكسل والعجز والفشل.
وأقولها حقيقة أنني لم أشعر قط بضعف ولا اهتزاز أمام الحضارة الغربية ولا ما تمثلها غير الجانب العلمي البحت. أما هنا فأنا أما ظاهرة أخلاقية تستدعي التأمل والدراسة. ولعل جزء من هذا الانبهار هو جهلي بالتاريخ الياباني تماما. فكما قلت لنفسي ولك أن زيارتي هذه كانت بلا حسبان. وزد على هذه الأخلاق الحسنة ما ذكره لي من عاشرهم من قرب ولسنوات: أنهم لا يدعون أبناءهم الصغار مع الأجهزة الذكية التي يصنعونها لنا. ولايتسامحون في العلاقات غير المنظمة. وغالب الزواجات والتعارف يحصل عن طريق الأسرة أو المعارف والأصدقاء. ومن العيب إظهار الحميمية في الأماكن العامة فلا قبل ولا أحضان ولا أحلام كما في شوراع الغرب. ولعنة الشذوذ لم تصل إليهم وهناك جهود حثيثة من بعض المشرعين ألا تصل. وأراد بعضهم إدخال اللغة الإنجليزية مبكرا فصوت الشعب بلا. ولذلك تجد ضعفا شديدا لدى الباحثين اليابانيين في الحديث باللغة الإنجليزية .. والحضور لمحاضراتهم قاتل ممل جدا جدا. لكنهم أهل ومعرفة وجهد وكد وتركيز. ومما شدني وأسرني من ساعتي الأول وربما ذكرت بعضا منه في السطور السابقة هو غياب الانشغال المبالغ فيه بالأجهزة كما ترى في اماكننا العامة. فالإنسان قد يمشي وهو لا يفعل شيئا إلا المشي. كذلك الحال في ركاب القطار والمشاة في الأسواق. والمنظر المتكرر الذي رأيته ولا أظن أنني رأيت كثيرا منه في أمريكا: هو منظر الجالس على حافة النهر يتأمل في الفراغ ويمنح عينيه النهر والشجر والجبال والدواب.
لا تخف في اليابان فالناس لا يسرقون الأشياء. أخذني سائق الأجرة فقلت له بعد أن لاحظت أن سيارته بلا شاشة إلكترونية: إنني لا أحملا نقدا. فأفهمني بالإشارة وقليل من إنجليزية: لا عليك. الصرافة أمامنا. وبقينا نسير حتى أوقفني أمام صرافة فنزلت وسحبت معي شنطتي فقال لي - بالإشارة - : على رسلك! دع شنطتك فلا خوف عليها. وكان ما كان. لم أخف عليها فنزلت ثم أخذت المال ثم عدت وهو واقف في مكانه ينتظرني. وهذا أمر ليس بغريب لكنه يقودني إلى حديث حدثني من وثقتُ به: نسيت كمبيوتري المحمول على دبابي على حافة الشارع مفتوحا ليلة كاملة وطرفا من النهار. ثم تذكرت فنزلت فزعا فوجدت كما هو. ونسيت زوجته ”النسّاءة“ - كثيرة النسيان - جوالها ومحفظتها مرات عديدة في أماكن عامة فما فقدتها ولا فقدت منها فلسا.
لا تتكلم بصوت عال في اليابان. فالناس كما ذكرت قبلُ يهتمون أشد الاهتمام بالآخرين ومشاعرهم وثقافة ”العيب“ حاضرة بشدة عند اليابانيين. فلا تسمع أحدهم يتكلم في جواله في مكان عام. ولم أسمع رنة جوال منذ قدمت ولا حتى جوالي - لأنني اعتدت على وضعه صامتا أبدا -. فالحديث في الأماكن العامة بصوت عال عيب. ولكل قاعدة شواذ= هاتان الفتاتان بجواري أزعجتا أذني بالضحكات والمكان خلاف هاتين هاديء ساكن.
كان عندي متسع من الوقت فاختلست ساعتين من الزمان وركبت القطار إلى منطقة اسمها “أراشيما“ وهي منطقة تبعد عن كيوتو حوالي نصف ساعة بالسيارة. يذهب إليها الناس ليروا أشياء عدة: النهر فيركبوا القوارب، وغابات البامبو فيروا أشجار البامبو العجيبة ، ولغابة القرود فيرو القرود. ومآرب أخرى. ذهبت هناك لأمشي ولأن فيها مطعما يابانيا أحب مالكه الحضارة الإسلامية فأدخل الأكل الحلال في قائمة الطعام لديه. وصار يبيع الحجاب - تنازلا- على الباب. ولم يخطر بذهني ولو لوهلة أن أزور القرود. ومتى كانت الرحال تشد ليرى الإنسان قردا مستلق على ظهره أو في يبترد في ماء النهر. مشيت ماشاء الله أن أمشي حتى بلغ بي الجهد والجوع مبلغه فاتجهت إلى المطعم الذي ذكرت لك وطلبت طبقا من لحم البقر الفاخر ثم انتظرت. وطال انتظاري. ثم جاء النادل ووضع أمام موقدا وذهب. ثم عاد ووضع قدرا فيه ماء وذهب. ثم عاد ومعه أطباق صغيرة وكبيرة ومنها طبق مليء بالخضار وطبق عليه شرائح رقيقة من اللحم. ثم ذهبوا جميعا. وانتظرت لعل أحدهم يظهر من خلف الحجاب فيحيل هذه الأشياء إلى طعام. وطال انتظاري. فصحت بالنادلة العجوز وسألتها بالإشارة والعين. من سيطبخ لي هذا؟. فاجابتني بالإشارة والعين إجابة واضحة صريحة: ” أنت“. وهي تشير لي بعينيها الواسعتين وأصابعها الكبيرة. وما ظننت أنني سأقضي الساعات الطويلات وأتنقل بين الطائرات والقطارات والباصات لأطبخ طعاما في ”أراشيما“. طبخته فكان بلا طعم ولا رائحة. بل أقول رائحة لن تحبها. والحمد لله على كل حال.
دعني أقول لك شيئا آخر: قضيت سنوات طويلة في أمريكا. وأمريكا جميلة رائعة. أعجز عن وصفها. لكن كان أثقل الأثقال علي أن احتاج حماما وأنا على سفر أو في مكان عام. وبعض الحاجات - كما تعلم - تُقضى بسهولة وبعضها خلاف ذلك. وربما عافست نفسي حتى أعود للبيت أو مكان أعلم علم يقينا أنه مما يصلح للاستخدام. أما هنا فأعجب من العجب. كل الحمامات العامة بها مقاعد أتوماتيكية. وبالغوا في تحسنيها فتكون دافئة دائما. والماء متوفر سهل يصل للمقعد بضغطة زر. وعدد الحمامات العامة التي دخلت في عشرة أيام في اليابان أكثر من عدد الحمامات العامة التي دخلتها في أمريكا في عشر سنوات.
عدت فقرأت ما كتبت أعلاه فشعرت أنني ”أحمد الشقيري“ أو ”محمد الرشيد“ -رحمه الله-. لكنني أقول مرة أخرى أشعر بالحيرة البالغة أمام ما رأيته وما كنت مستعدا له بسبب جهلي التام بما عليه المجتمع الياباني. ولو قلت لي: ماذا يجب أن نتعلم من اليابانيين؟. فهل أقول لك: المحافظة على الهوية؟ أو الأدب؟ أو الالتزام؟ أو الحرص على العلم؟ .. وقد كنت أظن أن ما يحصل هو بسبب نظام صارم أو قوانين رادعة. لكنني سألت عن ذلك كثيرا فما كان هذا هو الحال. بل إن الأنظمة في غاية المرونة كما فهمت وقد يكون فهما مستعجلا خاطئا. والإنسان خطّاء نساّء أخرق!.
كنت قد قلت سابقا أن السفر في تصوري ليس بحثا عن سعادة أو بهجة. بل خروج من الذات واكتشاف للنفس واعتياد على التواضع. وخلوة وتفكر وتأمل وتخل عن بعض المسؤوليات وتصفية للذهن. ومن يبحث عن السعادة وحدها فلن يجدها لإن السعادة إذا لم تكن بين جنبيك ومتدثرة في ثيابك فلن تجدها في مكان. بل أقول إن السعادة لايجب أن تكون هدفا وحلما لأنها مستحيلة التحقق في هذه الحياة. والله عز وجل خلقنا في كبد وستبقى الحياة متقلبة رضيت أم أبيت. وما يمكن تحقيقه هو الرضى والقناعة. والمسافرون - أستغفر الله: بل قليل منهم- لديهم ما ليس لدى غيرهم. وقد كنت جالسا في زاوية قريبا من حيث كنت . فدخل المكان رجلا يتكلم إنجليزية هندية. وطلب شاحنا لجواله فأعتذر الموظف. فعرضت عليه الشاحن الذي معي فأخذه وشكرني وكانت المقاعد محدودة فعرضت عليه المقعد الذي أمامي فجلس. سألته - وقد استعجلت في السؤال-: أنت من الهند؟ قال: لا! من سان فرانسيسكووو!. والحقيقة أن الهندي قل أن تخطئه العين أو الأذن ولو كان من المريخ. وتحدثنا في أشياء كثيرة وبدأ بالحديث نقدا في الإسلام والحجاب …والبقية مما تعرف. فأوقفته عند الحد الذي يجب أن يكون عنده. كأنما أقول له قول أبي نواس : ”عدِّ عن ذا، كيف أكلك للضبِ؟“. وكيف عبادتك للبقرة؟ وكيف عنصريتك التي لا تنتهي؟ وكيف الطبقية التي لديكم؟. وإن أردت كيف المشردون في سان فرانسيسكو؟ وكيف المخدرات في لوس آنجلوس؟ .. إلخ. وانتهى نقاشنا بهدوء كما بدأ بهدوء وإن كاد أن يسخن في المنتصف لكن الله سلم. وأظن أن هذا - الهدوء الذي تصالحت أنا وصاحبي الهندي عليها- بسبب أن غالب من يخرج من بيئته يعرف أن له حدودا يسير فيها ويتحرك. وهذا يقودني للقول أنني بعد سنوات طويلة لم يحاول أمريكي أبيض ولا أمريكي أسمر أن يقدح في ديني ولا عقيدتي بقليل ولا كثير إلا مواقف تعد على أصابع اليد الواحدة. أما الهنود وغيرهم من الملونين أمثالنا فكأنما نطحه تيسنا يوما ما. وفارقته وأنا أعلم أنني لن ألتقيه يوما ما إلا بمعجزة. الأمريكي لايقدح في دينك علنا. ولا يقول لك رأيه علنا إلا قليلا. ويبدو لي مما سمعت من أهل البلد ورأيت رؤية العابر أن اليابانيين كذلك. فكل منشغل بنفسه وحاله ودائرته الضيقة يحسن فيه ويصلح ويبدي ويعيد.
وتركت كيوتو الهادئة الوادعة بعد ظهيرة قاسية. بلغ بي الجوع فيها مبلغه مرة أخرى فذهبت لأقرب مكان قال لي قوقل عنه أنه يقدم القهوة ولقيمات خفيفة. وكان الانتظار طويلا فانتظرت عند الباب حتى أذنوا لي فجلست وجاءتني النادلة الخجولة - واليابانيون كلهم خجلون؟- فسلمتني قائمة الطعام بيديها الاثنين راكعة منحنية. فشكرتها وبقيت أتأمل القائمة فما وجدت فيها حرفا أحسن قراءته. فطلبت قوقل أن يسألها: عندكم بيض؟. فأشارت لي نعم. وأشارت لي إشارة سريعة على صحن رز. فقلت لها: بيض!. وأرجوك لا يأت إلي شيء فيه لحم. فقالت: حسنا. وكل هذا خليط من لغة الإشارة ولغة إنجليزية وقوقل. ثم جاءتني بصحن صغير في سلطة وصحن أكبر منه فيه رز، وإناء فيه حساء. فبدأت بالسلطة وثنيت على بعض الرز وانتظرت البيض فلم يأت. ورابني الحساء فما اقتربت منه. ثم دعوتها وسألتها. ما هو حساؤكم هذا وهل فيه لحم؟ قلت: سأسأل ثم عادت وقلت لي: نعم. هو لحم. والله يعلم أي لحم!. فقلت لها: وأين البيض؟. قالت: نفذ البيض. لكن سأعطيك فطيرة خضار. فجاءتني الفطيرة فاكلتها. وهي كذلك بلا طعم. وكانت خبزة مملؤة خيارا وخسا والحمد لله. ولم يأت المساء إلا وأنا في أوساكا. وأوساكا مدينة كبيرة فيها مطار دولي جيد. فألقيت رحلي ثم صليت فرضي فخرجت إلى مطعم علي الباكستاني. أخبرني عنه قوقل. فأكلت وشربت. فشبعت وارتويت.
قابلت في المطعم علي نفسه. وهو في اليابان منذ ٢٣ سنة. عاش أول حياته في أبو ظبي وأسرته كلها هناك. ثم انتقل إلى تورنتو فعاش شطرا من حياته فيها. ثم جاء صدفة كما يقول إلى اليابان فوجد فيها فرصة عمل ممتازة وهو هنا من تلك اللحظة. وهو منطلق في الحديث حاله حال كثير من أمثاله. والثرثرة في ظني من علامات الذكاء. وكثيرا ممن عرفت من المديرين والقادة والرحالة ثرثارون بالفطرة. يتكلمون في كل شيء. حدثني علي عن جمال اليابان ولطافة شعبها وصدقه وتخلقه بكثير من أخلاق الإسلام. وحدثني كذلك عن رحلته ماشيا ٨٠ كم في العراق بين قبور آل البيوت. وعن رحلته بالسيارة منفردا متنقلا على شواطيء اليابان ومدنها. واليابان كما تعلم جزيرة محاطة بالماء من كل جانب. وطال حديثنا وتأخر الطعام. ثم دخلت عائلة من باكستان. فحدثنا رب الأسرة عن وجوده في اليابان منذ عشرين سنة. وأعماله فيها وأثنى خيرا على البلد العظيم حين علم أنني من السعودية. وحدثني عن استقباله لأحد أئمة الحرم قبل سنوات واستضافته له. وحدثني كذلك عن اليابان وعن أهلها. وانشغال كل أحد بنفسه واخلاصهم في أعمالهم ومراعاتهم لمشاعر الآخرين. لكن صاحبي انقلب على عقبيه ولم تغيره أخلاق اليابانيين. فانطلق يذم السعودية وأنا جالس بينهم وليس بيننا معرفة. فتغيرت وجوه أطفاله وزوجته حياء وخجلا. وتركته حتى انتهى وقلت له: لو انشغل كل أحد منا بنفسه وبلده لكان خيرا. وانظر لليابانيين - كما تقول- كيف صنعوا. ولم يلقوا باللائمة على الصين أو على كوريا الشمالية أو على أمريكا. ثم عاد الحديث لأشياء أخرى لا تثير الخلاف والنزاع. ثم دخلت مجموعة من بنغلاديش وكانوا لايحسنون الإنجليزية. ثم دخل شاب من مصر مغرم بالسعودية. وقبل أن ألقي عليه التحية حدثني عن حبه للسعودية وأهلها وحبه للاستراحة والمندي وأشياء كثيرة. وهو في اليابان منذ كان طفلا عمره ٩ سنوات. لكنه أحب السعوديين باختلاطه بالمبتعثين الذين كانوا هنا. ثم أخذ نفسا عميقا وقال لي: الله! أشم رائحة العود. فقلت: شكرا لك مجاملة مع أن عهد بالعود قبل أن آتي لليابان ثم تحدث قليلا عن العود وحبه له. ثم دخلت أسرة من قطر. ثم شعرنا أننا في منظمة العالم الإسلامي. وكل هذا الذي أقول لك في ساعة من الزمان منذ دخلت المطعم حتى وصل الطعام وأكلته وخرجت. وألقيت نفسي على فراشي ونمت نومة طفل.
أستطيع أن أقول أن اليابان الآن في ذهني هي الصورة المحتشمة والخجولة والمحافظة. لأمريكا الخالعة الجرئية المتجردة. وأمريكا القانون والنظام والتشريع. واليابان بالإنسان الملتزم الجاد. هذه كلها انطباعات أرجو ألا يؤاخذني عليها أحد يوما من الأيام إن كانت بعيدة عن الصواب مخالفة للواقع. ودعني أقول أو لا تدعني إن شئت. لأنني سأقول ما أقول في كل حال: أظن أننا في طبائعنا نحن العرب أقرب إلى الغربيين منا إلى الشرقيين فيما يتعلق بحبنا للحرية الفردية والاعتداد بالرأي وحب المواجهة وكل واحد منا قائد نفسه وذاته. وربما ما يصلح لليابانيين لا يصلح لنا. فأنا أتأمل الناس في الشارع يمشون فرادى أو جماعات وكل فرد أو جماعة مشغول بنفسه كل الشغل. فلا يهمه كثيرا ما يحصل حوله. الحال ذاته في القطار. بجانبي شاب واقف بلا شيء يمسكه فتوقف القطار فجأة أو اقترب أن يتوقف فكاد الفتى أن يسقط وتحرك حركة واضحة جعلتني أهم بإمساكه والاطمئنان عليه عفوا. ولم يلتفت إليه ممن في القطار أحد. وعاد يلملم نفسه. لا تدور في القطار أحاديث بين الغرباء أبدا أو لم أر هذا أبدا. لكنني في الوقت نفسه ما سألت أحدا منهم عونا إلا ساعد وعاون. وخرج من قوقعته وانغلاقه على ذات إلى كائن منشرح منفتح مبتسم يتواصل بود وامتنان. الأمريكان أقل تحفظا لكن الناس هناك معبرين ميالين للأحاديث والكلام. أما نحن فأنت تعرف من نحن. ولا أعني بهذا انتقاصا أو قدحا. بل أقرّب وأصف. وأجدني مضطرا كل مرة للمقارنة مع أنفسنا ومع الأمريكيين. لأننا نحن. ولأنني عشت فترة طويلة في أمريكا ولأن أمريكا النموذج المعتاد عند الحديث عن الغرب والحضارة الغربية.
يقول لي أحدهم أن انغلاق الياباني على نفسه ليس تحفظا أو كرها للاجتماع بل مبالغة في حفظ المساحات الخاصة للناس وتحرجا وتورعا. ولعله رأي قريب للصواب فإنني ما سألت أحدهم شيئا إلا بالغ في الثناء والعطف. وكان موعد رحلتي متأخرا إلى منتصف الليل وموعد الخروج المعتاد هو الساعة ١١ ص. فثقل علي أن أحمل عفشي ومتاعي أتنقل فيها من شارع لشارع. فأتيت للياباني على الباب - باب الفندق-. وقلت له بلغة الإشارة. أود تمديد بقائي معكم ليلة ليس لأنني سأبقى ليلة كاملة. بل لأن رحلتي .. إلخ. فقال لي أمممم وعطف وجهه وقلبه. ثم خصم نصف قيمة الأجرة. جعله الله من المسلمين.
دعك من كل هذ. أكره السفر الفاخر الذي يتنقل بين المطاعم والمقاهي والأماكن الفارهة ويصور لك الطعام اللذيذ والقهوات الساخنة والشوارع المزدحمة. وأحب السفر البسيط الذي يقترب من الأشياء والناس. أحب أن أمشي حتى أتعب. وأضيع في الأماكن البعيدة. واتسلق الجبال. وأنام في الفندق البسيط بفطوره المتواضع -إن كان الفطور ضمن خياراته. ولذلك ليس في جوالي كثير صور. والسفر عندي هو هروب من اللحظة والأشغال المتراكمة وترتيب بعضها. وانقاص للوزن وتحريك للذاكرة وتأمل في الذات وخلو بها ولقاء بالأذكياء. وسيجمع السفر بأناس يقتربون منك أو يبتعدون لكنهم مميزون ومختلفون.
من الطريف الظريف أن قطارات اليابان فيها مسارات وقطارات مخصصة للنساء. فلا يكن معهن في قطر الانتظار ولا في القاطرة أحد. ووجدت نفسي يوما محاطا بالنساء من كل جانب ولم ادرك إلا حين رأيت الأرض الوردية والكتابة البيضاء تحت قدمي. فاستعذت من الشيطان ونزلت منازل الرجال. ولم اتنقل من قبل بالمواصلات العامة في أي مكان مثل تنقلي بها هنا. فهي سريعة وفعالة وقد توصلك لمبتغاك أسرع من السيارة. زد على هذا أنها في غاية النظافة والناس كذلك في غاية التذهيب. فلا ترى الفوضى البصرية التي تراها في بعض مدن أمريكا ولا أشكال المشردين والذين تقطعت بهم الأسباب. والأناقة واضحة في لباس اليابانيين فقل أن ترى من لا يرتدي سروالا رسميا وفنيلة طويلة الأكمام. والظاهر على النساء ستر كامل ما تحت الرأس. وأعني بالستر هنا ما يقابل التفسخ والتعري في الغرب. واللباس القصير والتعري نادر جدا بين النساء. وغض البصر شائع جدا جدا. وأحيانا يغلبني الفضول وأتذكر مقطعا من كتيب لعلي الوردي بعنوان ”شخصية الفرد العراقي“. وذكر عن بعضهم أن كان يراقب ملامح الرجال حين تمر بهم إحداهن. فقل أن ينظر أحد فيما لا يعنيه. ولم يسألني أحد قط من أين أنت إلا اثنين واحد في المصعد وكان يتحدث انجليزية مقبولة فيبدو أنه متخلق بأخلاق ليست له. وواحدة بعد أن وجدت نفسي صدفة في احتفال عام بمناسبة الذكرى التسعين لشيء ما.
أظن أن العصا أوشكت على أن تعود إلى مكانها. قابلت أردنيا وسودانيا في المطار. وكلاهما كان في المؤتمر فتحدثنا عن ضغط الدم. وجلست في زاوية من المطار أحضر للمحاضرة القادمة يوم الخميس. ولقيت رسالة تقول لي أنني مدعو لإلقاء محاضرة في اجتماع الكلية… ولجنة الطلاب فيها كذا. ولجنة الإرشاد فيها ذلك. والمريض الفلاني لم يأت لموعده اليوم. وجمع البيانات للبحث توقف. والوالدين اليوم في أبها.. وأنا أستقل الطائرة من مطار أوساكا عائدا إلى دبي ثم إلى الرياض ثم إلى أبها … وتستمر الحياة.
وماذا إذاً إذا انتقد صاحبك السعودية؟ وتقول "لو انشغل كل أحد منا بنفسه وبلده لكان خيرا" وتنتقص من خلقه، أوليس المسلمون كالجسد الواحد؟ فلم إذاً هي سعوديتك أنت فقط؟ أأنت أحق بتلك الأرض -أرض الله- والتي فيها قبلة المسلمين كافة لأنك تملك تلك الجنسية؟ ولو أن صديقك قبع في السعودية وخدمها هو وأحفاد أحفاده لما منحو الجنسية أبدا، لا أعرف كيف تقصّ علينا بهجتك بلقاء مختلف أجناس المسلمين ثم تظل تتشنج حين يأتي الحديث عن تلك المرسومة في الخريطة.
ردحذف